التاريخ الاستعماري المكبوت

باسكال بلانشار وساندرين لومار ونيقولا بانسال [1]

PASCAL BLANCHARD, SANDRINE LEMAIRE et NICOLAS BANCEL

إن النقاش الذي دار أخيرا حول عمليات التعذيب في الجزائر قد فتح لوهلة نافذة على إمكان توسيع الحوار حول المسألة الاستعمارية وعلى استقراء الانعكاسات البنيوية، والتي لا تزال بالتالي قائمة، الناتجة من رفض، لا واع على الارجح، لاستنباش التاريخ الاستعماري [2]. ان رغبة مختلف الداعين الى رفع الصوت ضد التعذيب أو من اجل انتزاع اعتراف فرنسا رسميا بذلك هي رغبة مشروعة في مختلف جوانبها. أذ ان الباعث عليها هو الاقرار بحدوث ما لم يكن “مقبولاً” كما أنها تسعى الى تحريك المجتمع الفرنسي. وكان من أثر هذه الأنشطة أنها فرضت نفسها، فقد تكلم بعض المتورطين من كبار القيادة العسكرية، وعبّر شهود آخرين عن معاناتهم لأنهم لا يستطيعون إخبار ما لا يمكن تحمل سماعه وحافظ آخرون على المواقف التي اتخذوها منذ الخمسينات (على أساس أن ما برر عمليات التعذيب كانت ضرورات الحرب وتصميم الخصم وأساليبه، الخ.). المهم أن الرعب انكشف والاعتراف انتزع، فساد شعور بالعزاء نتيجة الإحساس بأن صفحة سوداء من التاريخ قد استنبشت اراحة للضمير.

 وهذه التهدئة ثقيلة الوطأة إذ يبدو انها تقضي مرة أخرى على ما كان يمكن أن يثير نقاشا أوسع. فالاستعمار في الجزائر موصوم بالتعذيب الذي هو تعبير جلي “طبيعي” عن نظام غير طبيعي فلماذا إذن يبقى التاريخ والذاكرة الاستعمارية نقطة عمياء في لا وعينا الجماعي؟

والنقاش حول التعذيب في الجزائر يستعاد بشكل دوري، حدث ذلك في العامين1956 و1957 حين وصف المجندون في شهاداتهم عمليات التعذيب “وسخرة الخشب”، وفي العام 1980 بمناسبة صدور كتاب اعتبر بمثابة شهادة أحد الجلادين، وفي العام 1995 في الذكرى الخمسين لـ 8 أيار/مايو 1945 حين أعيد النظر في مجمل السياسة الفرنسية في الجزائر… فلماذا يبدو هذا النقاش جديدا مع انه جرى من قبل وتم حسمه، أي الاقرار بان الفرنسيين قد لجأوا الى التعذيب في الجزائر؟

 وفي الحقيقة ان السؤال نفسه سيتكرر مع كل جيل وبالذهول نفسه طالما لا يجري الاقرار بمبدأ ان التعذيب لم يكن انحرافا” ولا هو من مولدات الحرب (كما اعتبر منذ سنتين فقط)، بل أنه حصيلة شكل تحدد على أساس النسب هو شكل السيطرة التي فرضتها فرنسا على الجزائر [3]. وفي كل مرة سيجري الاصرار على اسقاط العائق نفسه، فالاقرار بان التعذيب ناتج من الاستعمار يعني فتح اعماق الذاكرة وتفجير الوهم الجمهوري الذي نهض به.

 وأيا يكن … أيا يكن فان تاريخ الجزائر هو سلسلة مملة من الوقائع، لا تقل “صدما” عن التعذيب خلال الحرب، تبين أننا في مواجهة نظام متكامل. فهناك بعض المظاهر التاريخية التي لا يمكن تقبلها هي أيضا ولا السماع بها لأنها تعيدنا الى ذواتنا والى القيم التي شكلت لحمة الميثاق الجمهوري“.

ولفهم هذا التمنع جيدا يمكن استحضار بعض الأمثلة التاريخية التي تساعد في استشراف حدود النقاش الدائر، فالتعذيب في الجزائر هو حقيقة تاريخية مرعبة لازمت حرب الجزائر. وفي كل حال هناك عدد وافر من الأمثلة لا سابق لها على وحشية القمع في الجزائر، وكلها مرعبة دون استثناء، من المحارق التي ارتكبها بيليسيه في مغاور “درها” في العام 1844 الى اضطرابات ستيف وغلما وخراطة [4] في العام 1945. وبالتأكيد يعلم المؤرخون ايضا أن هذه التجربة ليست منسوجة من هذه المآسي فقط، وان العديد من الشخصيات النبيلة والانسانية، ومنهم بعض العسكريين، قد اقتنعوا صراحة بحسنات “استعمار تحديثي يمكن أن يأخذ في الاعتبار الثقافة المحلية”[5]. والمكاتب العربية التي أنشئت في أواسط القرن التاسع عشر هي خير مثال على تلك الرؤية الاصلاحية.

لكن هذه المشاريع كلها اصطدمت بضرورات السيطرة من جهة، وتاليا بقمع الحركات الاصلاحية ثم الوطنية، ومن جهة أخرى بالبنية الاجتماعية في الجزائر (وقبل كل شيء الانقسام الاجتماعي العرقي بين المستعمِر والمستعمَر) وبمتطلبات الهيمنة الاستعمارية على الجزائريين، وهي الشرط الأساسي للحفاظ على القوة الامبراطورية. وهذا ما جعل من الجزائر رمزا نموذجيا لمآزق الاصلاح الاستعماري.

 كان هناك أولا مرسوم “كريميو” الذي منح يهود الجزائر في العام 1870 حق المواطنية الفرنسية. فهذا المرسوم السخي جدا كإجراء من مستتبعات الثورة الفرنسية، والواقعي في إطار خطة الهيمنة الاستعمارية، يكشف في تجاويفه وضع المسلمين الذين لم يستفيدوا من الحقوق نفسها (القضائية والسياسية، من دون الحديث عن تشغيلهم كعمال لمصلحة كبار الملاك الفرنسيين) والذين أقصوا حكما الى هامش المجتمع ليصبحوا غرباء في موطنهم.

 ثم جاء مشروع “بلوم- فيوليت” في العام 1936 وقد هدف الى منح الجنسية الفرنسية الى ما يزيد على 20000 مسلم (من اصل بضعة ملايين) اختيروا على أساس درجة “تماهيهم مع الوطن الأم” (متعلمون وتجار وحاملو أوسمة من الحرب العالمية الاولى الخ)، ولكن دون اجبارهم على التخلي عن شريعتهم الاسلامية. وقد فجر هذا المشروع المتواضع حملة معارضة عارمة في كل مجتمع البيض الاستعماري أدت الى سحبه في العام 1937 والى فوز غالبية كبرى من رؤساء البلديات من أوساط اليمين المتطرف أو من الوطنيين المتشددين ـ الحزب الشعبي الفرنسي، الحزب الاجتماعي الفرنسي، القوميون، الموراسيّون… ـ في المعركة الانتخابية التي تلت ذلك [6].

وأخيرا فان أحداث 8 أيار/مايو عام 1945[7] تساعد تماما في فهم تحجر الذهنيات بشكل أوفى. فيوم انتصار قوات الحلفاء على النازية، انفجرت اضطرابات في سطيف اوقعت 21 قتيلا أوروبيا، تكررت في الأيام التالية في قالمة وباتنة وبسكرة وخراطة حيث وقع 103 قتلى آخرين من السكان الأوروبيين. وقد جاء الرد على ذلك بعملية قمع تميزت بوحشية مذهلة إذ سقط 1500 قتيل بحسب المصادر الرسمية، الا أنه على الارجح سقط في الحقيقة ما بين 8000 و9000 قتيل. وبالتأكيد لا يمكن تشبيه الاستعمار بالنازية لكن لا يمكن إخفاء التناقض في موقف فرنسا التي كانت تحتفل بانتصار الأمم الديموقراطية على دولة امتهنت الابادة الجماعية في حين أنها كانت مصرة على أن تسيطر بوسائلها العسكرية على شعب أخضعته منذ أكثر من قرن وهو لم يكن في ذلك الحين يطالب، وطبعا عن طريق العنف، الا بإصلاحات لا تمس قط بالهيمنة الاستعمارية.

 اذاً ترافقت الاحتفالات الجماعية بانتصار استحقته الجمهورية مع ذكرى أليمة تمثلت في إذلال رهيب للشعب الجزائري. وتزامن هذه الأحداث كعامل مساعد مدهش على تحليل التناقض بين الخطاب الجمهوري والممارسة الاستعمارية، شكل انعكاسا داخليا لهذا الخطاب ومحاولة التمسك به مهما كلف الأمر في مرحلة التحرر، قبل أن يجري تناسيه بعد العام 1962 تماشيا مع المرحلة، وتناسيه هو شرط لاستمراريته وتاليا لاستمرارية الهوية الفرنسية.

 فالجزائر بما لا سابق له، هي نقطة مركزية لتناقضات المستعمِر. ففي الحقيقة أنه في حين أمكن في بقية انحاء الامبراطورية القيام ببعض النشاطات الحيوية لاستتباع “النخب المحلية” غير المثقفة تدريجيا وتأمين التحول من الاستعماري فالى الامبراطوري الى الاستعماري الجديد، كان وجود ما يزيد على مليون مستوطن في الجزائر يشكل قوة اجتماعية عارضت في كل مناسبة أي تطور.

 فهذه البنية الاجتماعية الفريدة من نوعها في الامبراطورية هي التي فاقمت التناقضات بكل عواقبها. فالتناقض قام أولا بين الخطاب الاستعماري الجمهوري والواقع الاستعماري. فمقابل المساواة المبدئية كان هناك التفاوت البنيوي. فسياسيا لا ينتخب المستوطنون في المجالس نفسها التي ينتخب فيها السكان المحليون، وقضائيا هم لا يخضعون للسلطات نفسها واقتصاديا فان المستوطنين يهيمنون على مجمل الاقتصاد النقدي.

 أما الاصلاحات الحاسمة التي قام بها ديغول في العام 1958، مثل الانتخابات العامة والمساعدات الاقتصادية المكثفة للسكان المحليين الخ، فقد جاءت متأخرة جدا حتى بعد تلك التي أجريت في افريقيا السوداء الفرنسية والتي اعتبرت على نطاق واسع أساسا انها بلدان متأخرة” أكثر من الجزائر. فالخطاب الجمهوري الاستعماري قد أغرق، في الجزائر أكثر من غيرها، في الخداعية والانحراف والكذب. وأكثر من أي مكان آخر، وتحديدا لأنها” المستعمرة النموذجية” و “جوهرة الامبراطورية” فان هذه التناقضات كانت الاكثر تدميرا، وهي “المستعمرة النموذجية” لأنها ليست تحديدا مستعمرة، بل اعتبرت مقاطعة فرنسية، ولهذا فان اليعقوبية السياسية المركزية، قد عملت، وبوضوح اكثر من غيرها، على المساهمة في الاحتفاظ بسيطرة فرنسا وبهيمنة المستوطنين، ضاربة صفحا عن المبادئ الديموقراطية.

بعد ذلك، وبعكس ما يمكن توهمه في مقاربة تبسيطية، فان تحليل الدعاية الرسمية المبثوثة في العاصمة، والتي ساهمت بشكل حاسم في صمود الوهم الاستعماري، تبين أن رسالة تمدد النموذج الفرنسي في اتجاه الجزائر (التنمية الاقتصادية، الصحة، الخ.) يجب أن تقلب، فالفرنسيون كانوا يتأملون في الصور الدعائية فقط رؤية “ما يجب أن تكون عليه فرنسا” من تنمية اقتصادية متوازنة، الى دور الدولة المركزي والساهر، وخصوصا العلاقات المتوازنة اجتماعيا وما بين الجماعات، وتعاون جميع الطبقات وجميع الاعراق في سبيل المصلحة العامة”. وهو خطاب ينفي جميع الفوارق الاجتماعية والهوة العميقة بين المستعمِرين والمستعمَرين.

إن المرآة الجزائرية لفرنسا، فرنسا الجمهورية ووهم المساواة، فرنسا دون نزاعات، هذه المرآة عندما تتحطم وتسقط معها جزءا من الحلم الجمهوري. في فرنسا تتشكل مجددا بعض الشظايا (احياء مئوية العام 1930، فشل مشروع “بلوم- فيوليت” في العام 1936- 1938، ذكرى 8 أيار/مايو 1945، عمليات التعذيب، 17 تشرين الاول/اكتوبر 1961، الخ.)، وكلها مذهلة بعنفها، لكن سرعان ما نتخلى عنها. لأن فرنسا لم تعرف كيف تجمع كل شظايا المرآة لترى ان هذه المرآة كانت عبارة عن نظام وأنها شكلت جزءا مهما من وهمها الجماعي. وحتى أن الجزائر كانت القناع الذي غلّف الحقيقة ولا تزال تشكل دليلاً ساطعا على فقدان الذاكرة فيما يتعلق بالسلوك الاستعماري الجمهوري.

 (1) الكتاب الثلاثة مسؤولون في وكالة آشاك (ACHAC) (agence @lesbdm.com) الى جانب ايمانويل كوللينيون (Emmanuelle Collignon) وهم يقومون هذه السنة بتنسيق برنامج “مذكرات الاستعمار! حدائق الحيوانات البشرية؟ أجساد غريبة، أجساد أسيرة، أجساد على القياس

 (Mémoires colonials! zoos humains? Corps exotiques, corps enfermés, corps mesurés) الذي سيطلق خلال مؤتمر دولي في 8 و9 حزيران/يونيو. والثلاثة مؤرخون فساندرين لومار مجازة وتحمل دكتوراه في التاريخ من المؤسسة الاوروبية في فلورنسا، ونيقولا بانسال. أستاذ محاضر في جامعة باريس السادسة- أورسي (UPRES EA 1609/CRESS)، وباسكال بلانشار. باحث مشارك في المؤسسة الوطنية للابحاث العلمية ومدير وكالة التواصل التاريخي التي تحمل اسم “بناة الذكرى” (Les Bâtisseurs de mémoire.) (1). 

[8][1][2] Nicolas Bancel et Pascal Blanchard, “Le colonialisme,  “un anneau dans le nez de la République” “, Hommes et Migrations, Paris, n?1228, novembre- décembre 2000.

[9][2][3] لمزيد من فهم المآزق الملازمة للاستعمار والتي كانت في أساس الصراع الفرنسي الجزائري راجع   كتاب:

Annie Rey-Goldzeiguer, Aux origines de la guerre d’Algérie, La découverte, Paris, 2001.                   

[10][3][4] . لمقاربة تحليلية راجع:

 Alain- Gérard Slama, La guerre d’Algérie. Histoire d’une déchirure, Gallimard, coll.”Découverte”, Paris, 1996

 [11][4][5] Charle- André Julien et Charles- Robert Ageron, Histoire de l”algérie contemporaine,PUF, Paris,1969

[12][5][6] Nicolas Bancel, Pascal Blanchard et Stéphane Blanchion, “L’opposition au projet Blum- Viollette”, in Plein Sud, Paris, Hiver 1994. 

[13][6][7] Boucif Mekhaled, Chroniques d’un massacre. 8 Mai 1945. Sétif, Guelma, Kherrata, Syros, coll. “ Au nom de la mémoire”, Paris, 1995; Yves Benot, Massacres coloniaux, La Découverte, coll.” Textes à l’appui”, Paris, 1994 et Annie Rey- Goldzeiguer, op.cit.

ــــــــــــــــــــــــــــ

عن العالم الديبلوماسي يونيو2001

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *